تشير أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي إلى أن الناتج المحلي للصين بلغ 13.6 تريليون دولار في عام 2018 بما يمثل نسبة 15.8% من الناتج المحلي العالمي، كما أن حصة الصين من الصادرات السلعية في نفس العام بلغت 2.4 تريليون دولار بما يمثل نسبة 12.2% من إجمالي الصادرات السلعية للعالم.
وأكدت الأزمة الإنسانية التي تعيشها الصين بسبب فيروس كورونا على القيمة الكبيرة التي يمثلها الاقتصاد الصيني بالنسبة للعالم، وكيف تداعت الأسواق العالمية والاقتصاديات الكبرى لما يتعرض له الاقتصاد الصيني جراء توقف بعض أنشطته الاقتصادية بسبب أزمة كورونا.
البورصات في أميركا والغرب وفي آسيا ومنطقة الشرق الأوسط شهدت تراجعات ملحوظة، وكذلك كان النفط من أسرع السلع التي تأثرت سلبيا في السوق الدولية، حيث انخفض سعر برميل النفط لما دون سقف الـ60 دولارا، بل ذهبت منظمة أوبك إلى أن التداعيات السلبية لأزمة كورونا ستستمر بالنسبة لأسعار النفط على مدار عام 2020.
وثمة تقديرات أولية عن تأثير أزمة كورونا على الاقتصاد الصيني تؤكد على تضرر أكبر شركة ائتمان صينية "آي سي بي سي" بانخفاض أسهمها بنحو 11%، وانخفاض قيمة أسهم بنك التعمير الصيني 7.6%، فضلا عن مخاوف تتعلق بتعميق أزمة مديونية الشركات داخل الاقتصاد الصيني، وكذلك الدفع خلال الفترة المقبلة لموجة تضخم تضرب بعمق الاقتصاد الصيني نتيجة تراجع الإنتاج.
لكن على ما يبدو أن ثمة مؤشرات إيجابية تبين تراجع انتشار الإصابات داخل الصين، وذلك من خلال ما أعلن يوم الأربعاء 12 فبراير/شباط 2020، وأدى إلى تحسن أسعار النفط في السوق الدولية بنحو 3%، وهو ما يضعنا أمام المتغير المستقل في هذه القضية، وهو مدى قدرة الصين على السيطرة على هذا الفيروس ومكافحته ووقف تداعياته السلبية.
لذلك فنحن أمام سيناريوهات عدة للتنبؤ بقدرة الاقتصاد الصيني على تجاوز أزمة "كورونا"، وهي:
ثمة تقديرات من قبل منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن مواجهة كورونا من خلال التوصل إلى لقاح فعال للوقاية منه تستلزم مدة زمنية تقارب 18 شهرا، وهو ما يعني استمرار إغلاق العديد من المنشآت الصناعية والخدمية داخل الصين، خاصة تلك التي تستلزم تعاملا بشريا، أما ما يمكن إنجازه عبر التعاملات الإلكترونية فيتم بصورة طبيعية، خاصة أن الصين قد مرت من قبل بتجربة فيروس سارس في مطلع الألفية الثالثة.
وسيكون الأمر في هذه الحالة مجرد إعادة ماكينة تشغيل الاقتصاد الصيني لطبيعتها، ولتعويض الخسائر التي نالت البنوك والشركات، وحركة الصين الاقتصادية الخارجية، من صادرات وواردات سلعية وخدمية، وضخ واستقبال الاستثمارات المباشرة.
لكن استعادة معدلات النمو ستحتاج لبعض الوقت، خاصة أن ثمة تنبؤات تذهب إلى أن معدل النمو في الاقتصاد الصيني سيكون عند 1% خلال الربع الأول من 2020، وفق سيناريو السيطرة على كورونا في الأجل القصير.
ومما يساعد على التعافي السريع للاقتصاد الصيني في ظل هذا السيناريو هو امتلاك البلاد بنية أساسية صلبة ومعرفية قوية يمكن من خلالها توفير قدر كبير من المرونة في جهازها الإنتاجي، وتعافي أسواقها الداخلية والخارجية.
وفي محاولة من قبل السلطات النقدية الصينية لإحداث حالة من التوازن في الأسواق في 10 فبراير/شباط 2020، تم ضخ نحو 129 مليار دولار من خلال استعادة الأوراق المالية الحكومية من أجل زيادة السيولة في السوق وتنشيط الطلب.
لكن في ظل إغلاق المنشآت الإنتاجية والخدمية في الصين قد يؤدي ذلك إلى ارتفاع معدلات التضخم التي قدرت مؤخرا بنحو 5.4% في يناير/كانون الثاني 2020.
ومن التحديات التي ستواجه الاقتصاد الصيني بعد السيطرة على أزمة كورونا استعادة حالة الثقة في المنتجات الصينية وما إذا كانت خالية من بقايا الفيروس، فثمة إجراءات احترازية سوف تلازم العديد من الدول -خاصة المستوردة من الصين- بشأن المخاوف الصحية، وهو ما سيؤخر فترة استعادة الصين مكانتها الاقتصادية على الصعيد العالمي.
في ظل هذا السيناريو ستكون الصين في أزمة حقيقية، وستنال من وضعها على خريطة القوى الاقتصادية الكبرى، وسيتجاوز الحديث عن تراجع قيمة المؤسسات المالية والإنتاجية في الصين كثيرا مما يذكر عن توقعات الأجل القصير، فضلا عن أن الفيروس سيكون قد نال من نسبة لا يستهان بها من الموارد البشرية في الصين، وهي عماد التنمية والنشاط الاقتصادي هناك.
وقد يساعد على تقيد الأوضاع الاقتصادية في الصين في ظل هذا السيناريو انتشار بعض الحالات الإصابة بفيروس كورونا في دول الجوار للصين، مثل اليابان وسنغافورة وفيتنام، وهو ما يعني أن الأزمة قد تمتد إلى خارج الصين وتؤثر على مجريات اقتصادية لهذه الدول.
ومن المؤكد أن استمرار الأزمة في الأجل المتوسط سوف يؤثر على قيمة العملة الصينية (الدولار يعادل نحو 7 يوانات صينية تقريبا)، وكذلك رصيد الصين من احتياطيات النقد الأجنبي الذي بلغ في ديسمبر/كانون الأول 2016 نحو 3.1 تريليونات دولار، بسبب ما هو متوقع بشأن تراجع معدلات الإنتاج في الدخل، وإصابة الصادرات والواردات بالشلل، وهو ما يعني أن العملة الصينية ستفقد جزءا كبيرا من قيمتها.
وفي هذه الحالة، قد يحدث تغير كبير في وضع الصين كأكبر مستثمر في سندات الخزانة الأميركية، حيث إن استمرار الأزمة للأجل المتوسط يعني حاجة الصين للتمويل بشكل كبير، مما يضطرها لبيع جزء كبير من أرصدتها من سندات الخزانة الأميركية.
وتمتلك الصين رصيدا يزيد على تريليون دولار كاستثمار في سندات الخزانة الأميركية.
متطلبات هذا السيناريو غير متوفرة، بسبب أن حدوثه يعني انتقال الأزمة من الصين إلى المحيط العالمي، وهو ما يعني استنهاض كافة الجهود العلمية والمالية لمواجهة كورونا حتى لا يصبح وباء عالميا، فضلا عن أن المصالح الاقتصادية لباقي بلدان العالم مع الصين تفرض أن تتشارك الجهود لإنقاذ الصين بغض النظر عن مكانتها الاقتصادية وعودتها كقوة اقتصادية.
يذهب البعض إلى أن ما تم في أزمة كورونا في الصين يأتي في إطار مؤامرة عليها من الخارج، لاستبعادها من المنافسة على خريطة القوى الدولية، ويستحضرون بعض الكتابات التي تم نشرها عقب الأزمة المالية العالمية لعام 2008، والتي تشير إلى أن الأزمة آنذاك كانت مصطنعة لتبديد ثروة الصين.
لكن في واقع الأمر فإن أزمة "كورونا" من الصعب استيعابها في إطار نظرية المؤامرة، لأن تداعياتها السلبية لن تتوقف على الصين وحدها، بل ستنال من جزء كبير من العالم، وقد رأينا حالة التأهب القصوى في مناطق كثيرة من العالم تحسبا لانتقال فيروس كورونا.
ختاما، ستكون فترة ما بعد الاطمئنان من السيطرة على كورونا مكرسة لاتخاذ الإجراءات اللازمة لعدم الوقوع في مثل هذه الأزمات، خاصة أنها تكررت غير مرة في الصين -من "سارس" إلى كورونا- لأكثر من سبب.
وسيكون الثمن باهظا، سواء ما يتعلق بالخسائر البشرية أو الخسائر المالية والاقتصادية، وهو ما سيؤخر الصين عن تحقيق أهدافها كقوة اقتصادية عالمية، بل وقوة عالمية ينتظر لها دور في تغير خريطة وميزان القوى العالمية الكبرى.